الثالوث و الوحدانية المجردة ج 2- اعداد كيرلس

 

الثالوث و الوحدانية المجردة
الثالوث و الوحدانية المجردة

الثالوث و الوحدانية المجردة

(2)

اعداد : كيرلس

المقدمة

في هذا الجزء سنحلق في سماء اللاهوت المسيحي, وبعيدا عن تفسيرات اهل السنة والمعتزلة ما هي النظرة المسيحية لصفات الله؟ واختص هنا بهذه النظرة الي اللاهوت المسيحي تحديدا الشرقي في القرون الخمسة الاولى من تاريخ الكنيسة.
كذلك ما هو المفهوم المسيحي عن الوحدانية؟
وسنلقي الضوء ايضا على ما يعرف بدفاع الصفات وهو شرح رفضه بعض المعاصرين وايده البعض الاخر.
فما هي حيثيات وملابسات هذا النوع من الشرح؟

نظرة اللاهوت المسيحي الشرقي للصفات
بالنسابة لنا كل شيء مدرك في ثلاثة ابعاد: الطول والعرض و الارتفاع, و بما ان ادراكنا ثلاثي الابعاد فيمكننا ان ندرك ايضا ما هو ثنائي الابعاد فنقدران نرسم دائرة, الدائرة المرسومة ثنائية البعد, و تكون الدائرة ثلاثية الابعاد عند اضافة الارتفاع لها.
فنحن يمكننا ان ندرك الدائرة وندرك الكرة, لكن لا نقدر ان ندرك اي بعد اخر غير هذه الابعاد الثلاثة, لكن الله يقدر يدركنا ويدرك نفسه لانه خارج هذه الابعاد, ولهذا لا يمكننا ان ندركه, فالله خارج الكون, خارج المكان والزمان, ولذلك عندما نتكلم عن صفات الله فسيكون من خلال طريقتين:
الاولى : اننا نوصفه بطريقة سلبية 
وهذه الطريقة معروفة باسم اللاهوت الابوفاتيك apophatic بمعنى اننا نصف ما ليس الله لكن لا نقدر ان نصف الله في جوهره, فنقول انه غير المرئي, غير المحوي, غير المبتدئ, غير الزمني, غير المفحوص, غير المستحيل .. الخ
الثانية : هو ان هذه الصفات هي افعال الذات
بمعنى ان الله هو فاعل بذاته, فنقدران نصف الله من خلال افعاله, ويعني ذلك اننا نقدر ان نعرف الله القدير من خلال فعل القدرة, ونقدران نعرف الله المحب من خلال فعل المحبة, فالله جوهر غير مدرك وليس له قياس عقلي لانه يسمو عن عقولنا لكننا نقدر ان نعرف الله من خلال اعماله فينا وفي العالم من خلال صور مختلفة واحدة من هنا وواحدة من هناك ونضغهم بجانب بعضهم حتى نرى تصور عن الله.
وبالتالي معرفتنا بالله كما يقول القديس غريغوريوس النزيانزي ” صورة واحدة نستمدها من مصدر وأخرى من مصدر آخر، ويتم دمجها في نوع من عرض الحقيقة، التي تفلت منا عندما نلتقطها، وتطير بعيدًا عندما نتصورها” وما قاله ما هو الا مفهوم الاباء الكبادوك عن مصطلح epinoia والإبينويا هي تصور يتشكل من خلال التأمل في الخبرة
وكما يقول باسيليوس الكبير: “إن الافعال(operations) متنوعة، والجوهر بسيط، ولكننا نقول إننا نعرف إلهنا من افعاله، ولكننا لا نتعهد بالاقتراب من جوهره. إن افعاله تنزل إلينا، ولكن جوهره يبقى بعيداً عن متناولنا.” وهذه الافعال / العمليات نقول عليها مصطلح: طاقة / انرجيا, والطاقة كما تصورها القديس ديدميوس الضرير ما هي الا الفعل المباشر لجوهر الله.
هنا الله بالنسبة لنا فاعل بذاته وليس بصفة فيه, وهنا يمكن ان نقول ان كل الصفات ما هي الا ذات واحدة بالتالي لا يوجد شيء اسمه صفة بالنسبة لله في ذاته (الصفات معدومة في الله), ولكن الصفة هي ما اراه انا عن الله في فعله.
وفي قولنا ان الله هو ذات فاعلة فهو بالتالي فاعل ازلي, وبالتالي هو موصوف بكل الصفات ازليا, لانه لا يمكن ان يكون الله لم يكن فاعلا ثم فجأة اصبح فاعلا او موصوفا بفعل لم يكن ازليا فيه والا في هذه الحالة حدث عليه تغيير وهذا يعني التركيب او التجزئة.
ومن هنا يقدم الثالوث حلا لمشكلة الصفات والافعال الغير معطلة لان الله فاعل ازلي, وكل الافعال الالهية نابعة من فعل المحبة الازلي لله مع كلمته في روحه.
الوحدانية في المسيحية
عندما نسمع كلمة وحدانية فاغلبنا يظن ان الوحدانية تعني الرقم واحد , فهل الله يساوي 1 , هل الله يخضع لمفهوم المفرد والجمع ؟
يجب هنا التوضيح ان هناك مفهومان متمايزان للوحدانية 
- الوحدانية monotheism 
- الواحدية unitarianism
الواحدية unitarianism تتعامل مع الله على انه وحدة (unit) وبهذا يخضع وجود الله للمفهوم العددي ووحدانيته بهذه الطريقة هي وحدانية عددية numerical
اما الواحدانية ,monotheismفلا تتعامل مع الله على اساس عددي فالله لا يخضع في وجوده لمفهوم الجمع المفرد فكثر من نصوص العهد القديم تشير الي الله بالجمع والمفرد معا وابسط مثال لذلك هو:
” اسمع يا اسرائيل الرب الهنا رب واحد ”
كلمة “الهنا” المستخدمة هنا مأخوذة من “ايلوهيم” وهي كلمة جمع لكلمة ” ايلوه ” لكن الغريب ان ايلوهيم الجمع هو اله واحد فلو كان الله في وحدانيته هو وحدانية عدديه فلا يجوز باي حال من الاحوال ان يتم جمعه , فمن الذي سيتم جمعه على الله؟
وحدانية الله في مفهومنا هي وحدانية متفرده الوجود لا يمكن التعبير عنها فهي تسمو على مفاهيمنا البشرية عن الفرد والجمع وهي ابعد مما تعنيه المصطلحات فالايمان المسيحي هو ايمان بوحدانية الله ليس من حيث الكمية الحسابية , لكنها وحدانية نوعية اي ترتبط بالتفرد الوجود.

ولما كان المسلمون يتهمون المسيحيين بتعدد الالهة كان لابد من شرح دفاعي للثالوث ولابد من مدخل لشرح الثالوث يتوافق مع ثقافة والفاظ العصر وهو ما ابدع فيه المفكرين العرب بما يعرف ب “دفاع الصفات”.

دفاع الصفات
بعد ان رأينا مفهوم اهل السنة عن الصفات انها اشياء حقيقية متعلقة بالذات ليست هي الذات وليست غيره.
هذا المفهوم عن الصفات كان مدخل مناسب لشرح مفهوم الثالوث للمسلمين, فسنجد القديس ساويرس ابن المقفع بيفتح المجال للالفاظ الدالة على الشرح الصحيح حتى وان قلنا ان الاقانيم هي صفات فيجب في النهاية نرجع للمفهوم الصحيح عن الاقنوم فيقول “ان عبر معبر فقال اشخاص او خواص او معاني او صفات كما فعل المتقدمون فانما يذهبون الي ما قلته”.
وسنجد بعض المفكرين من المسيحين العرب شرحوا الثالوث بثلاثية من الصفات وان كل الافعال الالهية ما هي الا انها نابعة من هذه الصفات وهذا من خلال ان الاب هو صفة الوجود اي انه القائم بذاته, وان الابن والروح القدس هما صفات ذاتية.

وظهرت وقتها كثير من الثلاثيات, فهناك ثلاثية يحيى ابن عدي هي : جود/الوجود والقوة والحكمة, نفس الثلاثية عند يوحنا الدمشقي, ويحيى اب

ن عدي قدم ثلاثية اخرى بعد تطور الفكر اللاهوتي لديه وهي: العقل والعاقل والمعقول , وايضا ثلاثية ايليا النصيبيني: الذات والحياة والحكمة , وايضا ثلاثية بولس الانطاكي: ذات وعقل وحياة.
لكن يمكن ان يقول احدهم ان هذا الشرح كان للتقارب الثقافي لكنه في حد ذاته غير صحيح, فما دقة هذا الكلام ؟
يبدوا عند سماعنا لشرح الاقنوم بانه صفة , فان اول شيء يأتي في ذهننا انها اعراض او احوال للذات(modes) وهذا بالطبع فكر سابيلي.
وايضا لا يعني ان الشرح خاطيء, لكن معناه انه يوجد حلقة مفقودة بين فهمنا الان وفهم المفكرين العرب في وقتهم.
فلما عرض المفكرين العرب شرح الثالوث كان في سياق دفاعي عن منطقيته لذلك يسمى ب “دفاع الصفات” وكان يعتمد على فهم الطرف الاخر عن كلمة “صفة” فواضح ان كلمة ” صفة ” التي نفهمها الان مختلفة عن فهم ” صفة ” التي فهمها المفكرين العرب.
لانه كما اوضحت سابقا مفهوم المسلمين عن كلمة صفة انها ليست عرض او حال لكنها شيء حقيقي موجود في الذات الالهية, فكان عندهم ذات واحدة وصفات كثيرة, لكننا نقول ان هناك ذات واحدة وصفتين فقط, وكان الاختلاف الوحيد بين شرح الثالوث عندنا وشرح الصفات عندهم هو ان الصفات عندهم هي اشياء غير الله ولا يجوز عبادتها.
ولكن مع هذا التقارب لا يوجد احد من المفكرين العرب كان يظن ان ما يقدمه هو شرح للثالوث لكن كان الغرض منه فقط تقريب الثالوث للقارىء المسلم وكما ان الاباء استخدموا لغة عصرهم في توضيح مفهوم الثالوث كذلك ايضا المفكرين العرب استخدموا لغة عصرهم.
ما هي الاسس التي استخدمها المفكرون المسيحيون في دفاع الصفات ؟
اولا الاساس اللاهوتي
في الثالوث هناك تمايز بين الاقانيم على وجهين , الوجه الاول: هو النمط الوجودي و معناه انه يوجد نمط من حيث وجود كل اقنوم فنمط وجود الاب انه المصدر او العلة في الثالوث, ونمط وجود الابن هو انه مولود من الاب ونمط وجود الروح القدس هو انه منبثق من الاب.
والوجه الثاني: هو النمط الكياني الشخصي / النمط الاقنومي , هو ان هناك تمييز بين الاب والابن والروح القدس من جهة النمط الشخصي وهو اساس اسم كل اقنوم, فمثلا الابن خاضع للاب لذلك سمي هذا بالاب وسمي الاخر بالابن, وهذا النمط لا يمكن ان يتم عكسه ونقول ان الاب خاضع للابن لان في هذه الحالة لا يمكن ان تكون العلاقة بينهم علاقة اب وابن, وبالرغم ان الاب والابن يقال عنهم انه روح الا ان الروح القدس اختص في الثالوث بلقب الروح وهذا لان الروح القدس معروف بالنمط الشفاف لانه لا يعلن عن ذاته, لكن في كل مرة نبحث في الروح القدس سنجد وجه الاب في الابن.
وبالتالي هذا النمط الشخصي يمكن ان نعبر عنه بتعبير القديس غريغوريوس اللاهوتي انه منفصل باتصال ومتصل بانفصال, فالاب بدون الابن هو ينبوع فارغ او مجد بلا بهاء او ضوء بلا شعاع , لذلك قيل على الابن انه بدونه لم يكن شيء مما كان, لذلك كل عمل يعمله الثالوث يكون من الاب بالابن في الروح فكل عمل يتم فهو يتم بفاعلية كل الاقانيم فيه.
وبالتالي لا يوجد مشكلة في اطلاق صفة على كل اقنوم دون الاقنوم الاخر, فكل اقنوم له ما يميزه عن الاقنوم الاخر من جهة وجوده ومن جهة شخصه, فكان نظرة المفكرين العرب ان الاب هو الذات القائمة المولود منه العقل وينبثق منه الحياة, وبالتالي يمكننا ان نقول ان جوهر الله معين في 3 تعيينات الوجود والعقل والحياة.
ثانيا الاساس الفلسفي
افلوطين (القرن الثالث) كان معروف عند العرب باسم الشيخ اليوناني, سنجد عنده مفهوم الهيبوستاسيس (الاقنوم), فنجد ان افلوطين تكلم عن الله انه الواحد الذي ينبثق منه العقل nous كهيبوستاتيس, ولكن هذا العقل لم يكن شخصا لكنه فعل/ طاقة.
واتي بعد افلوطين فلاسفة من نفس مدرسته (الافلاطونية المحدثة) وجدوا ان الثنائية الافلاطونية غير كاملة للتعبير عن الوجود فكملوا ما بدئه افلوطين متأثرين بالثالوث المسيحي لكن لم يكن في صورة اشخاص لكن في صورة طاقات فقالوا ان الله او الواحد ينبثق منه العقل والحياة.
فكان الدفاع بالصفات هو دفاع معروف اساسه عند المتكلمين المسلمين من خلال الفلاسفة السابقة لهم وبالاخص فلسفة يمبليخوس وبرقلس.
فلما استخدموه المفكرين المسيحيين وقتها كانوا يثبتون كلامهم من خلال مفهوم المتكلمين عن الصفات وكذلك مفهوم الفلسفة عن الثلاثية الالهية وبالتالي دفاع الصفات كان طريقة رائعة وممتازة لتوصيل المفهوم للاخر من خلال خلفيات مشتركة بين الطرفين.
انتهى بنعمة الله ..